إن الله كتب الفناء على كل شيء فكل شيء هالك إلا وجهه ، وحكم بالموت حتى على أحب الخلق إليه محمدا وأنبيائه ورسله فقال عز وجل ( كل نفس ذائقة الموت ) وقال جل وعلا لحبيبه محمد صلى لله عليه وسلم مخاطبا له ولامته ( أينما تكونوا يدركم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة ) فبالجملة ( كل نفس ذائقة الموت ) وكل نفس لا بد أن تشرب المنون صغيرة أم كبيرة ، ملكة أم فقيرة ، وزيرة أم حقيرة .لقد اصطفى الله نبيه ، هذا النبي العربي الأمين المأمون صاحب الجاه العريض ، والعرض المصون ، ومع هذا القرب وهذه المنزلة - التي لا يبلغها الواصلون - نعى الله إلى نبيه نفس نبيه الكريمة وأنذره ريب المنون ، وسلاّه بمن مات من قبله من المرسلين فقال (إنك ميت وإنهم ميتون ) لقد أنزل الله عز وجل قوله ( إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا * ) فقال صلى الله عليه وسلم : " لقد نُعيتْ إليّ نفسي ". وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت :( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يذهب ولا يجيء إلا قال :" سبحان الله وبحمده" ) . وعن عائشة رضي الله عنها قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكثر من قول " سبحان الله وبحمده و أستغفر الله وأتوب إليه" فقلت : يا رسول الله أراك تكثر من قول (سبحان الله وبحمده وأستغفر الله وأتوب إليه ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"أخبرني ربي أني سأرى علامة من أمتي فإذا رأيتُها أُكثر من قولي سبحان الله وبحمده وأستغفر الله وأتوب إليه ، فقد رأيتُها ( إذا جاء نصر الله والفتح ) ). ثم نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن نزلت هذه السورة ما يدل على قرب رحيله ، نزل عليه قول الله ( اليوم أكملت لكم دينكم ) ، فعاش صلى الله عليه وسلم بعدها (80 يوما ) ، وقيل عاش أقل من ذلك . وما زال الحبيب صلى الله عليه وسلم يعرّض لأمته باقتراب أجله ودنو فراقه لهذه الدنيا ، فقد خطب الناس في حجة الوداع قائلا : " يا أيها الناس خذوا عني مناسككم ، فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا " ، وطفق يودع الناس ، فقالوا هذه حجة الوداع ، فلما رجع من حجته إلى المدينة جمع الناس فخطبهم وقال "أيها الناس إنما أنا بشر مثلكم يوشك أن يأتيني رسول ربي فأُجيب " ، ثم حض على التمسك بكتاب الله ، وأوصى بأهل بيته خيرا ، قال ابن رجب : ( وكان ابتداء مرضه صلى الله عليه وسلم في أواخر صفر ) ، وذكر ابن هشام وغيره في السيرة عن أبي مُويهبة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو مُويهبة ( بعثي رسول الله صلى الله عليه وسلم - أي أيقظني من جوف الليل - فقال :" إني أمرت أن أستغفر لأهل هذا البقيع ، فانطلق معي " ،فانطلقت معه فلما وقف بين أظهرهم قال :"السلام عليكم أهل المقابر ، ليهنأ لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه ، فقد أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم - كقطع الليل المظلم - يتبع آخرها أولها ، الآخرة شر من الأولى " قال : ثم أقبل عليّ فقال: " يا أبا مُويهبة إني قد أوتيت مفاتح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة فخُيرت يبن ذلك ، وبين لقاء ربي والجنة "، فقال أبو مُويهبة : بأبي أنت وأمي خذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة ، فقال : " لا والله يا أبا مُويهبة لقد اخترت لقاء ربي والجنة " ، ثم استغفرَ لأهل البقيع ثم انصرف . فبُدء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بدأه وجعه الذي قبضه الله فيه ، وقالت عائشة رضي الله عنها: رجع رسول الله صلى الله علبه وسلم من البقيع فوجدني وأنا أجد صداعا في رأسي وأنا أقول وارأساه ، فقال صلى الله عليه وسلم : " بل أنا والله يا عائشة وارأساه " ، قالت : ثم قال : " وما ضرك يا عائشة لو متِ قبلي فقمتُ عليكِ وكفّنتكِ وصليتُ عليكِ ودفنتكِ " ، قالت عائشة : والله لكأني بكَ لو قد فعلتَ ذلك ، لقد رجعتَ إلى بيتي فأعرستَ فيه ببعض نسائكَ ، قال : فتبسم صلى الله عليه وسلم .) وروى الدارمي : أنه خرج صلى الله عليه وسلم وهو معصوب الرأس بخرقة حتى أهوى على المنبر فاستوى عليه فقال : " والذي نفسي بيده إني لأنظر الحوض من مقامي هذا " ، ثم قال : " إن عبداً خيره الله بين أن يؤتيه زهرة الدنيا ما شاء ، وبين ما عنده ، فاختار ما عند ربه " ، فبكى أبو بكر رضي الله عنه وقال : يا رسول الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا ، وقال : فعجبنا ، وقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه زهرة الدنيا ما شاء ، وبين ما عنده ، وهذا الشيخ يعنون أبا بكر - يقول : فديناك بآبائنا وأمهاتنا ، قال : فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المُخيّر ، وكان أبو بكر أعلمنا به ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أمنّ الناس علي في صحبته وماله أبو بكر ، ولو كنتُ متخذاً من الأرض خليلاً لاتخذتُ أبا بكر خليلاً ولكن أخوة الإسلام ، لا يبقى في المسجد خَوخَة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر " -رواه الشيخان -قالت عائشة رضي الله عنها : لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واشتد وجعه استأذن أزواجه رضوان الله عليهن أن يُمَرّضَ في بيت عائشة فأُذن له ، فخرج وهو بين رجلين تخط رجلاه في الأرض - خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيت ميمونة إلى يبت عائشة وهو محمول يحمله العباس بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب قد أثقله الوجع ورجلاه صلى الله عليه وسلم تخطان في الأرض - . وفي رواية : أنه صلى الله عليه وسلم قال لنسائه : " إني لا أستطيع أن أدور في بيوتكن فإن شئتن أذنتن لي في البقاء عند عائشة " . وفي رواية : أنهن قلن : يا رسول الله قد وهبنا أيامنا لأختنا عائشة . وقيل أن فاطمة رضي الله عنها خاطبت أمهات المؤمنين بذلك ، فدخل بيت عائشة يوم الاثنين ، وكان أول مرضه صلى الله عليه وسلم الصداع ، ثم نزلت به الحمى واشتد ، حتى روي عنها رضي الله عنها أنها قالت : ما رأيتُ أحداً كان أشد عليه الوجع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كانت عليه قطيفة ، فكانت حرارة الحمى تصيب من يضع يده من فوق القطيفة فقيل له في ذلك - فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم عن شدة حرارة ما نزل به من الحمى - فقال صلى الله عليه وسلم : " إنا كذلك معاشر الأنبياء يُشدد علينا البلاء ويُضاعف لنا الأجر " . وعن عبد الله قال : دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك فقلت : يا رسول الله إنك توعك وعكاً شديداً ، قال : " أجل إني أوعك كما يوعك رجلان منكم " ، قلت : ذلك أن لك أجرين ؟ قال: " أجل ،كذلك ما من مسلم أوذي بشوكة فما فوقها إلا كفّر الله بها سيئاته كما تحط الشجرة ورقها . ) ولهذا من شدة ما نزل به من الوجع ، وما نزل به من الحمى وحرارتها يقول : " أهريقوا علي من سبع قرب لم تُحلّ أوكيتهن لعلي أعهد إلى الناس " ، قالت عائشة : فأجلسناه في مخضب ثم طفقنا نصّب عليه من تلك القرب حتى طفق - بأبي هو وأمي - يشير إلينا بيده "أن قد فعلتُن " . وكان صلى الله عليه وسلم يقول : " لا أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر ، لا أزال أجد ألم الأكلة التي أكلت بخيبر فهذا أوان انقطاع أظهري من السم ". وذلك أن يهودية دعت نبينا صلى الله عليه وسلم ، وكانت تعلم أحب مواضع اللحم إليه فسمّت ذلك الموضع حقداً وبغضاً وكراهيةً على نبينا صلى الله عليه وسلم . عن ابن عباس رضي الله عنه قال : لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إذا جاء نصر الله والفتح )- إلى آخرها - قال صلى الله عليه وسلم : " نُعِيتْ إلي نفسي " ، فأقبل إلى منزل عائشة والحمى عليه . قال بلال رضي الله عنه فلما أصبحتُ أتيت إلى حجرة النبي صلى الله عليه وسلم فناديت : السلام عليكم يا أهل بيت النبوة .. الصلاة . - جاء بلال يؤذِن النبي بالصلاة ليقم بلال الصلاة ليؤم النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال صلى الله عليه وسلم لفاطمة : " مُري بلالاً يقرئ أبا بكر السلام ويقول له يصلي بالناس " ، قال بلال : فرجعت باكيا وأنادي : وا سيداه ..وا نبياه وا سوء منقلباه ليت بلال لم تلده أمه . ثم أتيت المسجد فوجدت أبا بكر محتبسا بالناس ، فبلّغت أبا بكر السلام والرسالة قال بلال : فأقمت الصلاة فلما بلغت ( أشهد أن محمدا رسول الله ) غلبني البكاء ، فبكيت وبكى الناس فتقدم أبا بكر رضي الله عنه فأم الناس ، واستفتح الفاتحة ثم قرأ ، فلما نظر إلى موضع أقدام النبي صلى الله عليه وسلم خنقته العبرة فبكى وبكى الناس من خلفه ، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم ضجة الناس بالبكاء قال لفاطمة : " ما هذه الضجة التي في المسجد ؟ " ، قالت فاطمة : إن المسلمين فقدوك وقت الصلاة . ثم وجد النبي صلى الله عليه وسلم خفةً في بدنه ، فتوضأ وخرج متوكئاً على الفضل بن عباس وأسامة بن زيد علي بن أبي طالب فلما رأى المسلمون نبيهم .. لما رأى المسلمون حبيبهم .. لما رأى المسلمون نوراً تدفق إلى المسجد في إقبال النبي صلى الله عليه وسلم وأحسوا بمجيئه جعلوا ينفرجون حتى وصل النبي ، فوقف بإزاء أبي بكر وصلى بالناس ، فلما فرغ رقى المنبر يخطب في الناس ، فحمد الله وأثنى عليه ثم أقبل للناس بوجهه الكريم كالمودع لهم فقال : " ألم أبلغكم الرسالة ، وأؤدي الأمانة والنصيحة ؟ " ، قالوا : بلى يا رسول الله قد بلّغت الرسالة ، وأديت الأمانة ونصحت الأمة وعبدت الله حتى أتاك اليقين ، فجزاك الله أفضل ماجزى نبي عن أمته . ثم نزل فودع أصحابه ، وعاد إلى عائشة